ليست الحكاية حكاية خرائط ترسم بالمسطرة على الطاولة، لكنّها صراع على الهوية والحق، صراع بين مشروعين لا يلتقيان: مشروع تحرري يقوده شعب يُقاوم منذ أكثر من مئة عام، ومشروع استعماري إحلالي قائم على الطرد والنهب والخداع.
من يتحدث اليوم عن “حلّ الدولتين”، يُشبه من جاء يُقسم تركةً قبل أن يموت صاحبها، ويظن أنه بفكرة التقسيم هذه سينهي المسألة. لكن هذه الأرض لم تكن يومًا ورقة ملكية في درج الاستعمار لتُقسم، ولا شعبها قابلٌ أن يكون شريكًا في اتفاق يُمنح فيه للقاتل ثلاثة أرباع البلاد، ويُقال للضحية: خذ ما تبقّى واصمت.
ما يُسمى بـ”حلّ الدولتين” ليس إلا محاولة جديدة لإعادة صياغة نكبة 1948 على طريقة اتفاقيات 2025. نكبة مكرّرة، لكن هذه المرة يتم تمريرها عبر مبادرات ظاهرها إنساني وباطنها تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.
نموذج أوسلو لم يكن تجربة فاشلة فقط، إنما كان فخًا أُحكمت حبكته لتمكين العدوّ من التمدد، وضرب البنية المجتمعية والنضالية للشعب الفلسطيني. واليوم يُعاد تدوير تلك الصيغة بما يُسمى “حلّ الدولتين”، ليُمنح العدوّ شرعية دائمة على أرض مغتصبة، وتُرسم للفلسطينيين دويلة بلا سيادة، محاصَرة بالجدران والمعابر والحواجز، بلا ميناء ولا مطار، وبلا جيش، وبالتأكيد بلا قدس.
ولمن يملك ذاكرةً غير مثقوبة، فإن تجربة “اتفاق الحُديبية” التي تذرّع بها كثيرون لتمرير الحلول المرحلية، كانت اتفاقًا مؤقتًا لم يُفرّط في المبدأ، بينما ما يُطرح اليوم هو تخلٍّ صريح عن جوهر القضية مقابل اعتراف هش وسيادة شكلية. ومَن يُقارن بين الحُديبية وأوسلو أو خطة الدولتين، يُسيء إلى التاريخ ويضلل الواقع.
أنصار الله في اليمن، ومنذ انطلاقة مسيرتهم، لم يُراوغوا في الموقف من فلسطين، ولا قالوها همسًا في أروقة السياسة. قالوها بصوت مسموع: فلسطين كلّها لنا، من البحر إلى النهر، لا نُقر بشرعية كيان محتل، ولا نعترف بخط أخضر أو أحمر يرسمه العدو. وكلّ وقفة لهم في الميدان، من دعم المقاومة في غزّة، إلى الضربات التي هزّت الكيان في قلب البحر، ليست سوى ترجمات عملية لهذا الموقف، موقف لا يطلب وساطة، ولا يخشى عزلة، ولا يقبل المساومة.
ومن نافذة التاريخ أيضًا، حين قبل البعض بتقسيم فلسطين في 1947، قيل إنها “تنازلات من أجل السلام”، فماذا كانت النتيجة؟ ارتقى الآلاف من الشهداء، ضاعت المزيد من الأراضي، وحُوّلت القضية من صراع تحرر إلى مفاوضات عبثية بلا نهاية. واليوم يعاد المشهد نفسه، بنفس الوجوه التي لبست ربطة العنق بدل الكوفية.
من يقبل بحلّ الدولتين اليوم، كمن يضع توقيعه على صك اعتراف نهائي بـ"إسرائيل"، ليس كأمر واقع فقط، إنما ككيان شرعي يجب التعايش معه. وهذا بالضبط ما لا تقبله صنعاء، لا في خطابها ولا في عقيدتها. ومن كان يظن أن الحرب على اليمن ستُسقط موقفه من فلسطين، فهو لا يعرف طينة هذا الشعب ولا معدن هذه القيادة.
وبينما تتزاحم الوفود العربية في واشنطن و"تل أبيب" بحثًا عن فتات التسويات، كانت صنعاء ترسل مسيّراتها وصواريخها الفرط صوتية عبر البحر الأحمر إلى عمق الكيان المحتل، فهي لا تفاوض باسم فلسطين، ولكنها تشتبك من أجلها، لأن الحق حين يُهان لا يُدافع عنه بالبيانات، إنما بالمواقف التي تُكلف، ويُدفع ثمنها.
حلّ الدولتين مشروع بلا روح، يُسوّق الآن كأنه مخرج إنساني لأزمة مستعصية، لكنّه في الحقيقة ليس إلا بوابة لشرعنة الجريمة، وتكريس الضعف، وتخدير الشعوب باسم الواقعية السياسية.
ومن صنعاء التي لا تُجامل في الثوابت، يُقال بلهجة الواثق: لا حلّ إلا بزوال الاحتلال، لا اعتراف، لا تقسيم، لا تفاوض على الأرض ولا على المقدسات ولا على الكرامة.