المقدمة
تشهد منطقة غرب آسيا تسابقًا استراتيجيًا بين مشروعين جيوسياسيين توسعيين يحملان طابعًا أيديولوجيًا وتاريخيًا: "ممر داوود" المرتبط بالعدو الصهيوني، و"ممر زنغزور" المرتبط بالطموحات التركية في بناء ما يُعرف بـ"تركيا الكبرى". ورغم التباين الظاهري بين المشروعين، إلا أن كليهما يسعى لإعادة تشكيل الجغرافيا الإقليمية بما يخدم مصلحة قوى تسعى للهيمنة الجيوسياسية، غالبًا على حساب السيادة الوطنية لدول المنطقة ووحدة أراضيها.
ممر داوود الخلفية والرؤية الاستراتيجية
يمثّل "ممر داوود" تجسيدًا عمليًا للرؤية الصهيونية التوسعية المستندة إلى مشروع "إسرائيل الكبرى"، حيث يهدف إلى إنشاء ممر بري يمتد من الجولان السوري المحتل عبر الجنوب السوري نحو نهر الفرات، لربط الكيان بالمناطق الكردية في سوريا والعراق. المشروع يحمل أبعادًا جيوسياسية عميقة، أبرزها تفكيك وحدة الأراضي السورية والعراقية، ومحاولة تطويق إيران من الغرب، في سياق توسع صهيوني مدعوم أميركيًا ويشمل في الوقت نفسه خروقات عسكرية في الجنوب اللبناني.
أدوات التنفيذ والدينامية الميدانية
يعتمد تنفيذ المشروع على جملة أدوات مركبة، منها دعم المجالس الانفصالية والمليشيات المحلية (كما في السويداء ودرعا)، واستغلال الهويات الطائفية والعرقية لتفتيت النسيج الوطني، إلى جانب التحالف مع القوى الكردية المسلحة في سوريا والعراق. كما توظف تل أبيب الانتشار الأميركي في مناطق مثل التنف والحسكة كغطاء لوجستي. وميدانيًا، عززت سيطرتها في الجولان والساحل السوري، وروجت لإدارات ذاتية درزية في الجنوب، في حين تكرر اختراق القرار 1701 في لبنان. هذه التحركات تمهد لتثبيت "ممر داوود" كأمر واقع.
التحديات والمآلات المحتملة
رغم زخم المشروع، يواجه "ممر داوود" تحديات كبرى قد تعيق تنفيذه، أبرزها صلابة محور المقاومة من طهران إلى بيروت، والرفض الشعبي في سوريا ولبنان لأي تقسيم سياسي أو وصاية خارجية، فضلًا عن تضارب المصالح مع تركيا في الملف الكردي. كما أن الوجود الروسي والإيراني الفاعل يشكل توازنًا مضادًا للتمدد الصهيوني. في المحصلة، يُعد الممر ساحةً جديدة لصراع المحاور، بين مشروع تفكيكي أميركي–صهيوني، ومحور مقاومة يسعى لحماية وحدة الإقليم وتوازناته الجيوسياسية.
ممر زنغزور وتحولات التوازن الإقليمي
يمثّل مشروع "ممر زنغزور" أحد أخطر التحولات الجيوسياسية في جنوب القوقاز، حيث تسعى أذربيجان وتركيا إلى فتح ممر بري يربطهما عبر أراضي أرمينيا، بهدف ربط العالم التركي ببعضه وتعزيز مشروع "تركيا الكبرى". يتقاطع هذا المشروع مع مصالح الكيان الصهيوني في التمدد شرقًا عبر باكو، حليف أمني وعسكري بارز، بما يهدد الخاصرة الغربية لإيران ويعزز حلفًا ثلاثيًا (أنقرة–باكو–تل أبيب) قد يُغيّر خريطة النفوذ الإقليمي ويقوّض الدورين الإيراني والروسي في القوقاز.
موقف إيران والتصعيد العسكري
ترى إيران أن فتح ممر زنغزور يمثّل تهديدًا استراتيجيًا لأمنها القومي، كونه يقطع تواصلها الجغرافي مع أرمينيا ويضعف دورها كمعبر تجاري محوري في مشروع "ممر الشمال-الجنوب" الذي يربطها بروسيا والهند. وقد عبّرت طهران عن موقفها من خلال تصريحات حازمة ورفع منسوب التوتر ميدانيًا عبر مناورات عسكرية على حدود نهر أراس، في مقابل تدريبات تركية–أذرية مشتركة باسم "قبضة الإخوة"، وسط تصاعد التحالفات المعادية لطهران في المنطقة.
التدويل وتقاطعات المشاريع الكبرى
تتداخل أبعاد مشروع زنغزور مع رؤية أميركية–صهيونية أشمل تهدف إلى تطويق إيران من الشمال (زنغزور)، والغرب (ممر داوود)، والشرق (كردستان العراق). هذا المسار يهدد بتفكيك دور إيران كحلقة وصل بين آسيا وأوروبا ويعزز من اختراق الناتو لمناطق بحر قزوين. ومع محاولة واشنطن إضفاء شرعية على المشروع عبر إشراف لوجستي أميركي، يتصاعد الرفض من طهران ويريفان، بينما تصرّ أنقرة وباكو على سيادة أذرية مطلقة على الممر، ما يجعل "زنغزور" ساحة اشتباك جديدة في حرب النفوذ الكبرى في غرب آسيا.
ممرات الحصار: تكامل تركي-صهيوني لتطويق محور المقاومة
في مشهد جيوسياسي بالغ التعقيد، يتقاطع مشروع "ممر داوود" الصهيوني مع مشروع "ممر زنغزور" التركي–الأذري في إطار استراتيجية إقليمية متكاملة تهدف إلى تطويق محور المقاومة من جهتي الجنوب والشمال. فالعدو الصهيوني وتركيا، كلٌ بطريقته، يستغلان الثغرات الجغرافية والتنوع العرقي والمذهبي لفرض وقائع جديدة على الأرض، بدعم من تحالفات إقليمية ودولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. فممر داوود يمتد من الجولان إلى البادية السورية بهدف عزل سوريا عن إيران وحزب الله، فيما يفتح زنغزور جبهة ضغط شمالية عبر أذربيجان ضد خاصرة إيران، في ما يبدو أنه تقسيم وظيفي للمهام ضمن مشروع إقليمي أكبر يهدف إلى تفكيك البيئة المقاومة للهيمنة الغربية والصهيونية.
في المقابل، تسعى إيران إلى مواجهة هذا التمدد الجيوسياسي عبر أدوات متنوعة، من الضغط العسكري والدبلوماسي إلى تعزيز التحالفات مع روسيا والصين ضمن محور أوراسي مضاد. وقد نجحت مؤقتًا في كبح مشروع زنغزور عبر رسائل نارية ومناورات على الحدود، لكنها تواجه تصعيدًا متسارعًا في الساحة السورية واللبنانية، خاصة مع محاولة فرض "ممر داوود" كأمر واقع. وتكتمل معالم هذا المشروع بزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى باكو، في خطوة توحي بتنسيق إقليمي جديد يتجاوز السياسة إلى الربط الميداني بين الجبهات. لذا، فإن صمود طهران في وجه هذين المشروعين سيُشكّل اختبارًا لمستقبل التوازنات في غرب آسيا ولسيادة الدول أمام المشاريع العابرة للحدود المقنّعة بشعارات اقتصادية وأمنية.
نتنياهو وأردوغان: ازدواجية الطموح والموقع في هندسة الشرق الجديد
رغم التباين الأيديولوجي الظاهر بين نتنياهو وأردوغان، إلا أن كليهما يقود مشروعًا توسعيًا يستند إلى سرديات دينية وتاريخية تهدف لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة، فنتنياهو يروّج لـ"إسرائيل الكبرى" عبر التوسع العسكري والاستيطاني، فيما يسعى أردوغان إلى إحياء "تركيا الكبرى" مستعينًا بالإرث العثماني وأدوات النفوذ الناعم والخشن. يتقاطع المشروعان في ممرات استراتيجية كـ"داوود" و"زنغزور"، لتطويق إيران ومحور المقاومة وتفكيك الكيانات العربية، تحت رعاية أميركية. هذا التلاقي يُنتج تحالفًا وظيفيًا غير معلن، يهدد سيادة الدول وتوازنات المنطقة، ما يستوجب مواجهة استراتيجية شاملة لإسقاط هذه الممرات ومشاريع الهيمنة المقنّعة.
تكامل في التخطيط لا في الأهداف
أن مشروعي "ممر داوود" و"ممر زنغزور" لا يندرجان ضمن مبادرات اقتصادية أو لوجستية فحسب، بل يُمثّلان أدوات استراتيجية في إطار صراع أوسع لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في غرب آسيا. يتقاطع مشروع "إسرائيل الكبرى" مع مشروع "تركيا الكبرى" رغم اختلاف الخطابات والأيديولوجيات، في مسعى مشترك لفرض وقائع جيوسياسية جديدة، بالتحالف مع الولايات المتحدة، وتحويل أذربيجان إلى نقطة ارتكاز لهذا التلاقي. وفي حين يتحوّل ممر زنغزور إلى عقدة دولية تتشابك حولها مصالح كبرى، يبقى الخطر ماثلًا بأن تتسبب هذه الممرات في تفجير أزمات وصراعات إقليمية جديدة. وفي المحصلة، يشكّل هذا التلاقي الصهيوني–التركي تهديدًا مضاعفًا للأمن القومي العربي والإسلامي، ويستدعي استجابة استراتيجية شاملة من قوى المقاومة والدول السيادية.